تعطيش غزة... تكرار أوامر الإخلاء يفاقم أزمة المياه
يعيش أكثر من مليون شخص في وسط قطاع غزة أزمة مياه متفاقمة، تضاف إلى أزمة نقص الغذاء، وهم يواجهون سياسة التعطيش الإسرائيلية بعد أن أخرج القصف العديد من الآبار عن الخدمة.
فاجأ جيش الاحتلال الإسرائيلي سكان مدينة دير البلح وأجزاء من مدينة خانيونس بقرار إخلاء جديد، صباح السبت الماضي، لكن هذه المرة شمل القرار مناطق هُجّر إليها أكثر من 200 ألف فلسطيني، ممن يركزون على الإقامة بالقرب من محطات وآبار المياه التي تجعلهم صامدين في مواجهة التهجير.
وأعلنت بلدية دير البلح التي تعمل بطاقة محدودة في ظل نقص المعدات والوقود، خروج عدد كبير من آبار المياه عن الخدمة نتيجة إخلاء المنطقة الشرقية ومناطق قريبة من وسط المدينة، ومن بينها آبار القسطل القريبة من أبراج القسطل، وآبار في مناطق المعني، والمنتزه، والصناعية، والمزرعة، وآبار ساحل رقم 4 و5، وبئر 21K، إضافة إلى خزان البركة، وخزان القسطل.
ويعتبر خزان البركة على حدود منطقة الإخلاء، كما أوضحت البلدية، ما اضطرها إلى إغلاق البئر حتى لا يتجمع الناس بالقرب منه، فيتعرضوا للقصف أو الاستهداف، وبذلك تفقد المنطقة الغربية من المدينة مصادر التغذية بالماء، كذلك فإن عدداً من تلك الآبار يعمل من خلال تزويد برنامج الأغذية العالمي أو وكالة "أونروا" ومنظمات أخرى لها بالوقود الذي يدخل من معبر كرم أبو سالم.
يقول رئيس لجنة الطوارئ في بلدية دير البلح، إسماعيل صرصور، لـ"العربي الجديد"، إن "أوامر الإخلاء الإسرائيلية الأخيرة تسببت في إخراج عشر آبار من أصل 19 عن الخدمة، وأصبح الوصول إلى ثلاث آبار خطراً، والآبار الثلاث تقع غربي شارع صلاح الدين في المنطقة التي كانت تصنف آمنة، وكانت ضمن المصادر الرئيسية لتزويد محافظات الجنوب بالمياه، وبذلك أصبحت ستّ آبار فقط تعمل، وبطاقة محدودة".
يعتمد سكان قطاع غزة في تدبير المياه على أكثر من 700 بئر
يضيف صرصور: "نقل المياه من هذه الآبار كان يغذي مدينتي خانيونس ودير البلح، وأصبح نحو مليون مهجّر موزعين على نحو 200 مركز إيواء في دير البلح من دون مصادر مائية، فالمنطقة تعد الأكبر اكتظاظاً بالسكان على مستوى العالم مقارنة بمساحتها الصغيرة التي لا تتجاوز 14 ألف كيلومتر، وبعد قرار إخلاء المناطق الشرقية أصبحت مساحة ما يسمى المنطقة الآمنة لا تتجاوز 9 آلاف كيلومتر".
يتابع: "عطل الاحتلال آبار المياه، وهو يعرف تماماً أنها وسيلة التغذية الوحيدة للناس الموجودين بالمنطقة في محيط مستشفى شهداء الأقصى ومناطق وسط مدينة دير البلح. الآبار التي أُخرِجَت عن الخدمة كانت تنتج ملايين اللترات يومياً، وتزود سكان المنطقة والمهجّرين، وكذا المستشفى وبقية مراكز الخدمات بالمياه، وقد سبق للاحتلال تدمير سبع آبار في مدينة دير البلح عبر القصف المباشر، وهو بذلك يتعمد حشر مئات الآلاف في منطقة ضيقة عبر تدمير كل مقومات الحياة، وعلى رأسها مصادر المياه. هناك تكدس مخيف للمهجّرين، وهذا ينتج أمراضاً وينشر الأوبئة، وتتفاقم المخاطر في ظل نقص المياه".
ويعتمد سكان قطاع غزة في تدبير المياه على أكثر من 700 بئر منتشرة في محافظات القطاع الخمس، ودمر الاحتلال قرابة 200 منها مباشرةً، وألحق بنحو 200 بئر أخرى أضراراً بالغة، وعدد آخر من الآبار لا يمكن الوصول إليها في ظل وجودها ضمن المناطق التي تقرر إخلاؤها، وبعض الآبار لا يعرف مصيرها، ومنها تلك الموجودة في المنطقة العازلة الحدودية على طول الشريط الشرقي الفاصل مع الاحتلال الإسرائيلي.
وبعد انتهاء العملية العسكرية التي استغرقت نحو شهرين ونصف على مدينة خانيونس، في إبريل/نيسان الماضي، بدأت وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" تتلقى كميات محدودة من الوقود من أجل تشغيل آبار المياه في المحافظة الجنوبية، وكمية محدودة للمحافظة الشمالية، لكن بعد العملية العسكرية على مدينة رفح، أصبح سكان القطاع تحت رحمة كميات الوقود التي يسمح الاحتلال بتزويده للمنظمات الدولية، والتي يخصص جزء منها لتشغيل الآبار.
يعمل المهندس البيئي محمد أبو العطا في قطاع توزيع المياه ببلدية خانيونس، وهو متخصص في الإشراف على محطات المياه تحت خطة الطوارئ والتواصل مع المنظمات الدولية، ويقول: "سبق أن طلب الاحتلال إخلاء مناطق في مدينة خانيونس تضم أكبر ثلاث آبار في المدينة، إحداها تغذي منطقة مدينة أصداء والأراضي الزراعية المحيطة بها، والأخرى في المنطقة الغربية الشمالية، والثالثة تغذي المنطقة الشرقية التي كان فيها ما لا يقل عن 30 بئر مياه، دمر الاحتلال نصفها بالقصف المباشر".
ويوضح أبو العطا لـ"العربي الجديد": "كان وصول أهالي غزة خلال الأسابيع الأخيرة للمياه شديد المحدودية، وراوحت الكميات بين 3 إلى 6 لترات للفرد يومياً، وكان الشخص يحتاج إلى الانتظار لساعات للحصول على المياه، إلى جانب الاعتماد على جزء من المساعدات الإنسانية، خصوصاً المياه المعدنية المخصصة للحوامل والمرضى والأطفال الذين يحتاجون إلى العناصر الغذائية الإضافية التي تحملها تلك المياه، لكن بعد الإخلاء الأخير، أتوقع أن تصل الكمية اليومية إلى أقل من 3 لترات للفرد". يضيف: "مهمة الحصول على المياه في بعض المناطق شبه مستحيلة في ظل عدم القدرة على الوصول إلى الآبار، فضلاً عن الاكتظاظ، وهذا الأمر قائم حالياً في مناطق مثل المواصي ومناطق غربي مدينة دير البلح، وقد كان المهجّرون يتركزون في مدينة دير البلح بوسط القطاع لاعتقادهم أنها ستكون ملاذ التهجير الأخير، وبعدها ينتهي العدوان. لكن الاحتلال يتعمد ملاحقة المهجّرين في كل المناطق. المشكلة أن المنظمات الدولية كانت تركز عملها في بداية العدوان على مدينة خانيونس، ثم انتقلت إلى مدينة رفح، وبعدها عادت إلى خانيونس ودير البلح، والآن جميع المناطق تحت طائلة الخطر، وليس من السهل نقل الخدمات، وعمل المؤسسات يحتاج إلى مقومات كبيرة لتنظيم الخدمات، مثل المياه والرعاية الصحية".
ما يزيد قلق المواطنين في غزة أنهم سيحتاجون إلى ساعات أطول من الوقوف في طوابير الحصول على المياه مع خروج مزيد من الآبار عن الخدمة، وبعد قرارات الإخلاء الأخيرة، بات البعض يحتاجون إلى ساعتين أو ثلاث ساعات من المشي للوصول إلى أماكن التوزيع، وفي بعض المناطق تصل المدة إلى أربعة ساعات في ظل وجود ثلاث آبار عاملة فقط في المنطقة الغربية لمدينة دير البلح.
في اليوم الأول بعد أوامر الإخلاء، اضطر المهجّرون إلى قطع مسافات كبيرة مشياً على الأقدام للوصول إلى منطقة تقع بين دير البلح وغربيّ خانيونس بالقرب من المنطقة الأثرية المعروفة باسم "تل الرقيش"، لكن بعضهم تاهوا خلال محاولة الوصول إلى منطقة توزيع المياه.
وتتفاقم معاناة المهجّرين المتكررة في ظل انعدام وجود نقاط لتوزيع المياه، إذ عندما ينتقل المهجّر من منطقة إلى أخرى يكون تركيزه منصباً على إيجاد نقطة توزيع المياه الجديدة، لكن تلك النقاط لا تكفي عادة لاستيعاب حاجة المهجّرين الجدد، وعليه يقرر بعضهم البحث عن بدائل، لكنها غالباً ما تكون صعبة، ما يزيد من المشاكل بين المصطفين في الطوابير والقائمين على توزيع المياه.
حمل خالد موسى عدداً من زجاجات المياه إلى منطقة شبه صحراوية هُجّرت إليها أسرته، وخلال رحلة العودة اضطر من شدة العطش إلى شرب بعضها، وفي صباح اليوم التالي بدأ البحث عن مصدر جديد للمياه. يقول لـ"العربي الجديد": "ما يحصل معنا أصبح يفوق مقدرتنا، وكثيرون أصبحوا يتمنون الموت على مواصلة الحياة بهذه الطريقة، فالعطش يقتلنا تحت أشعة الشمس الحارقة، ونهجَّر بصفة متكررة مشياً، إذ لا نملك مالاً ندفعه لأي وسيلة نقل، والتواجد في منطقة صحراوية، والمبيت في العراء شديد الخطورة، وفي كل صباح نبحث عن زجاجة مياه للشرب".
هُجّر محمد المغربي إلى وسط القطاع عقب تدمير منزله في مدينة رفح، وقد تنقل خلال الأسابيع الأخيرة بين ثلاث مناطق ضمن مناطق الإخلاء الجديدة، وهو يشعر بعطش دائم، ولا يتاح له سوى شرب كمية قليلة من المياه حتى يوفر البقية لأطفاله. يقول لـ"العربي الجديد": "بعد أن كنا في مدينة رفح نقدم المياه للمهجرين، أصبحنا من بين المهجرين الذين لا يجدون المياه. لا آبار، وكثيراً ما أنظر إلى مياه البحر، وأتمنى لو أنها صالحة للشرب، ثم أتذكر أنّ من الجيد أنها صالحة للاستحمام".
المصدر: العربي الجديد