إبداع من رحم المعاناة.... يكسر ألما ويبني أملاً
وكالة الحرية الاخبارية - سلمي وريدات - من بين عتمة الوحدة والألم، امرأة أبت المساعدة من أحد ، اعتمدت على نفسها في كل شيء منذ نعومة أظافرها، مشوارها بدأ وأحلامها بدأت تنسج منذ رؤيتها لمهارة الأخريات بتعلم الخياطة ، فقررت التعلم على آلة الخياطة لتنسج أحلامها بيدها، إبرة تُكسر وتأخذ معها حلماً، وأخرى تنسج حلماً آخر في ظرف 25 يوماً، لتنطلق أحلامها وأمالها معلنةً الفرح والسرور والاعتماد على النفس .
فاطمة أبو شرخ (53) عاماً، ملامح وخطوط وجهها لعلها للوهلة الأولى تغر الناظر إليها لتجعله يسرح بالتفكير بمعاناتها، إلا أن هذه الخطوط تحكي قصة كفاح ونجاح وأمل وقوة لا تنكسر بالرغم من أعوام كثيرة مرت .
إصرار على النجاح ..البداية مع الخياطة
تقول فاطمة إنها بدأت التعلم في مجال الخياطة بعمل أثواب التراث التي تدعى "المناجل" ، باستخدام آلة الخياطة تسمى "جرانيت" آنذاك بعمر (10) سنوات فأتقنت ذلك خلال 25 يوماً خلافاً لصديقاتها، حيث قامت بإكسابها هذه الحرفة فوزية الطيطي مواطنة غزية تسكن مدينة الظاهرية، وبعد ذلك طورت فاطمة نفسها من خلال التطريز، والتي كانت ترى بأنها تحافظ على التراث الفلسطيني من الضياع والاندثار، بالإضافة إلى تأمين احتياجاتها اليومية، ومساعدة أهلها في تأمين ما يحتاجون إليه، و تكفلها بمصاريف أخيها الذي كان يدرس في الأردن والذي كانت تفضله أمها عليها ، وتجلى ذلك بقولها :" كنت أطلب من أمي رحمها الله كثيرا بأن تسمح لي بشراء حذاء لارتديه لكنها كانت دوماً تقول" أخوكي أبدى منك" وهنا الصورة واضحة لتمييز الذكور على الإناث ، لكن فاطمة لم تتضايق من ذلك بل كانت سعيدة جداً بمساعدتها لأخيها .
المأكولات الشعبية والإقبال اللامتناهي عليها
قد تتذوق طعاماً بلسانك، غير أن تذوق الطعام لا يقتصر على الفم وحده، فالعين والأنف والإيمان الصادق بنظافة الصنف تشترك في ذلك، لتجتمع صفات وسمات أطباق شعبية محببة للكثيرين ولتجعل فاطمة تتخذ هذا المنحى، لتصنع تلك الكريات الصغيرة بلون الذهب مستخدمة مكونات طبيعة مئة بالمئة، إنه "المفتول" هذه الكريات الذهبية الصغيرة جداً التي وفرت لفاطمة الرزق الوفير، ولتجعل من يطلبونه بأعداد كبيرة وكميات وفيرة، لتتعدى الطلبات العائلات إلى العزائم الكبيرة في المناسبات، وليصبح اسمها معروفاً لدى الناس في كل مكان وخاصة للنساء العاملات ومعلمات المدارس ليزداد الطلب أكثر، لتكون فاطمة صورة حية تعج بالحركة لتلبي جميع طلبات زبائنها التي تبدأ عادة في المساء لتكون جاهزة في تمام التاسعة صباحاً، هذه الطلبات المتزايدة جعلتها تتجه إلى صناعة أصناف أخرى مثل "الملتوت" و "المطبق"، والذي لطالما وصفته بالشهي جداً، وأيضا تصنيع "العنبية" من دالية عنب عمرها من فاطمة (53 عاماً)، تقطف منها كل عام ما مقداره 120 قطفاً ، تقول: " كل هذا الشيء من فضل رب العالمين، وصنعة في اليد أمان من الفقر، ودائما بتمنى كل وحدة تكون مثلي تعتمد على حالها وما تبخل بشي على نفسها، ومثل ما قال المثل اللي بيستكتثر غموسه بياكل حاف يوم عسل ويوم بصل".
حكاية عشق ترويها فاطمة عن بيتها القديم
هناك حيث تقف البيوت القديمة شامخة بعزة وإباء، رغم كل الظروف التي مرت بها منذ آلاف السنين، تجد كل شي بها يجتهد ليتحدث عن نفسه، حجارتها الكبيرة، غرفها، والطريقة التي بنيت بها، رائحتها التي تعيدك إلى عبق الماضي، القهوة العربية ورائحة الهيل المنبعثة من ذلك المطبخ الصغي ، صورة اكتملت لترسم الابتسامة على وجه فاطمة رافضة ترك بيتها تحت أي ظرف من الظروف.
بيتٌ، الناظر إليه من الخارج يرى فيه كل القدم والتاريخ العريق، لكن هذه النظرة سرعان ما تتبدل بمجرد دخولك إليه ، لترى أن الحضارة والتمدن قد عانقت التراث القديم بأجمل صورة، وليخيل إليك أنك ترتاد أحد الأجنحة الفندقية الفخمة من الدرجة الأولى ذات المستوى الرفيع، حيث عملت فاطمة دوماً على تحسين مكان سكنها دون أن تأبه بالتكاليف، ففيه من الديكورات والأثاث كل شي جميل، بالإضافة إلى ركن خاص بالتراث والمطرزات. كل هذا اجتمع داخل غرفتين، مكان بالرغم من تواضع حجمه إلا انك تجد به الراحة والهدوء المنشود، إضافة إلى تزينه بالكثير من المزروعات فالليمون ذو الرائحة العطرية الفواحة والورود بشتى أشكالها وأنواعها لتلقي بظلالها وجمالها على البيت وزواره .
"الحياة حلوة بس نفهمها"
كأس واحد ومعلقة واحدة وصحن واحد كلها تدل على وجود شخص واحد يكتفي بالقليل، لكن فاطمة عكس ذلك تماماً. فالكأس يتحول لكؤوس والصحن إلى صحون لتكون مائدة عامرة تصلح لعدد كبير. والسبب في ذلك تقول فاطمة : "إنني أحب الحياة كثيرا وأحب أن أطعم الجميع ، وجود الأشخاص حولي فرحة لا توصف وخاصة بعد موت والدي ووالدتي، عندما أحضر الشاي لا أضع كأسة واحدة بل أنني احسب حساب أشخاص ربما يزورونني، بالإضافة إلى أنني أحب فصل الربيع كثيرا وخاصة عندما يكون موسم الخبيزة ويأتي الناس لجنيها أكون في قمة سعادتي واعمل على تحضير الشاي لهم لكن سرعان ما تغادر هذه الفرحة مع أصحابها، زي ما بحكي المثل يا ما أحلى الجمعة لو على فانوس وشمعة".
"الصاحب القديم واصله واستديم"
ثمار الأرض تجنى كل موسم، لكن ثمار الصداقة تجنى كل لحظة هكذا هو حال صديقات فاطمة وجيرانها يحبونها كثيراً، صداقة تؤرخ لوقت طويل، تزداد قوة وصلابة كل يوم .
طبق شهي وحكاية شيقة كفيلة بأن تجمع الصديقات، تقول فاطمة :" نتجمع بيوم يناسب الجميع نحضر طبخة شهية ومن بعدها نبدأ التحدث عن أيام زمان ونسترجع ذكريات ذهبت ومنها كيف كان أبي يأجر الجمل، حيث كان أهل العريس يلبسون الجمل منديل ملون ويضعون عليه الهودج وكنف من الصابون وكنف من الحلويات ليكون جاهزاً وتمتطيه العروس وتزف من بيت أهلها لبيت العريس، لقد كنا نذهب لأي عرس مهما ابتعد عن مكان سكننا لنرى العروس المزينة بريش يحيط طرحتها، بالإضافة إلى الكثير من الأيام والمناسبات الجميلة "، إذن صحبة تجتمع على كل ما يجمع المحبة والجمال لهذا ما زالت مستمرة إلى هذا اليوم ، فكل شيء بالسيف إلا المحبة بالكيف .
"إلي على بالو ما يحرم حالو"
"الحمد لله "، عبارات الحمد لم تفارق فاطمة طوال حديثها ، شاكرة الله عز وجل على نعمة تقول عنها: " لقد أعطاني الله من خيراته كثيراً، فإحدى هذه الخيرات أن أكرمني بزيارة بيته فاعتمرت 8 مرات وحجيت وتكفلت هذا العام بدفع كافة مصاريف العمرة لإحدى النساء، ليس هذا وحسب فقد زرت تركيا وشرم الشيخ والقاهرة والإسكندرية وسأرجع لزيارة تركيا مرة أخرى في شهر شباط القادم، فعلى الإنسان أن يسعد نفسه ويعمل كل ما بوسعه لتطوير نفسه دون انتظار المساعدة من أحد ".
"عَ لواه نرجع مثل ما كنا"
أمنيات وآمال جعلت فاطمة تقول: " (عَ لواه نرجع مثل ما كنا)، بتمنى يرجع فيّ الزمن بعيش ببيت شعر وبكمل دراستي خاصة بعد ما جربت قبل خمس سنين أروح على محو الأمية بس ما كملت بسبب نظرة الناس، ومن الشغلات إلي كنت بتمناها وخاصة بأحداث غزة الأخيرة وهي تبني طفل ويعيش معي ، فالحمد لله على كل شي ".
هذه هي قصة فاطمة، قصة تزرع الأمل بالنفوس والإقدام على الحياة وتحدي كل الظروف، ولسان حال فاطمة يقول لو كان الأمر بيدي لأصبحت بائعه ل خبز الأمل، فالكثيرون بحاجه لرغيف ساخن، يسكن جوع خيباتهم، فمن رحم المعاناة ونفقها المظلم تخرج النجاحات إلى فضاء الإبداع ونور التميز.