من تحليل الأهداف إلى توثيق الوجود: نيللي المصري... ذاكرة الملاعب في زمن الحرب
كتبت: دينا سلامين- لم تكن نيللي المصري مجرّد صحافية رياضية تمارس مهنتها في ملاعب غزة، بل كانت شاهدة على علاقة الفلسطينيين العميقة بالرياضة، وعلى الشغف الذي كان يتفجّر من بين المدرجات قبل أن تغيب الجماهير تحت الركام، كانت نيللي أول صحافية رياضية في فلسطين، جمعت بين التحليل، والتصوير، والبحث العلمي الرياضي، واستطاعت أن تحجز لنفسها موقعًا متقدّمًا في المشهد الإعلامي الفلسطيني، في ميدان لطالما اعتُبر حكرًا على الرجال.
تقول نيللي:
"كانت حياتي المهنية جميلة جدًا، وكنت أستمتع بكل لحظة في الملاعب، أرافق والدي المرحوم إسماعيل المصري، لاعب منتخب فلسطين السابق، ونتابع المباريات معًا، كانت علاقتنا كصديقين أكثر من كونها أبًا وابنة".
لكن الحرب قلبت حياتها رأسًا على عقب، من الأسبوع الأول للحرب، بدأت رحلة النزوح، وتكرر الأمر ست مرات، وهي تحمل كاميرتها ومعداتها الصحفية معها في كل مكان، تقول: "عندما نزحنا من بيتنا في مدينة الزهراء، اصطحبت معي كاميرتي ومعدات التصوير، لكني نسيت اللاب توب القديم وتمت سرقته، وهو يحتوي على أرشيف صوري وأعمالي لأكثر من 15 سنة، اضطررنا للمبيت في الشارع وسط القصف، كانت ليلة صعبة لم نتوقع النجاة منها".
خلال الحرب، تغيرت مهمة نيللي الصحفية من نقل الأحداث الرياضية إلى توثيق الإبادة الرياضية والانتهاكات؛
"كنت أكتب عن اللاعبين الذين قُتلوا خلال الغارات الإسرائيلية، وأرصد نزوح الرياضيين ودمار المؤسسات الرياضية، أشعر بمسؤولية كبيرة تجاه مجتمعي، كل ما أصوره أو أكتبه هو شهادة للتاريخ"، تقول نيللي.
كانت أكثر اللحظات صعوبة عندما استشهد أحد اللاعبين الذين تعرفهم شخصيًا، مثل الشهيد سليمان العبيد، المعروف بـ "بيليه فلسطين"، كانت قد أجرت معه مقابلة قبل استشهاده بأيام، حين وصف لها رحلته مع عائلته عبر الحواجز وجثث الشهداء، لم تستطع كتابة القصة فورًا، إذ ظلت كلماته تطاردها في أحلامها لأيام، قبل أن تجمع شجاعتها وتحوّل الألم إلى نصّ توثيقي ظلّ شاهدًا على بشاعة المشهد.
"كانت مقابلتي معه قبل استشهاده بعنوان: "من الملاعب الخضراء إلى أهوال القيامة"، لم أتمكن من كتابة المقابلة لعشرة أيام، وأصبحت أحلم بالكوابيس من شدة ما أخبرني به عن رحلته عبر الحواجز".
توضح نيللي أن العمل الصحفي في زمن الحرب كان مرهقًا نفسيًا، لكنها استمدت القوة من مسؤوليتها تجاه الرياضيين: "كنت أعيش الحرب مرتين، مرة في حياتي اليومية ومرة ثانية مع الحدث الذي أتعامل معه، استنزفتني نفسيًا، لكني واصلت الكتابة والتوثيق، شعرت أن ما أفعله واجب تاريخي".
أما بالنسبة للتصوير، تغيرت نظرة نيللي للكاميرا والصورة بشكل كامل، بين ركام الأندية وصمت الملاعب، أدركت نيللي أن الصورة لم تعد فقط توثيقًا للحظة، بل أصبحت رسالة ومسؤولية، صارت تقتنص الجانب الإنساني في كل إطار، وتبحث في الوجوه عن أثر الحياة الذي بقي رغم الحرب، تحوّلت الكاميرا من أداة عمل إلى رمز مقاومة، ومن وسيلة لتوثيق الفوز إلى وسيلة لحفظ الذاكرة.
"الصورة الفوتوغرافية لم تعد مجرد لقطة رياضية جميلة، بل أصبحت رسالة إنسانية، البحث عن الجانب الإنساني في كل إطار أصبح الهدف الأساسي".
ورغم كل الصعوبات: فقدان المعدات، انقطاع الكهرباء، صعوبة الحصول على المعلومات، والضغط النفسي، لم تتخل نيللي عن شغفها بالرياضة أو عن مسؤوليتها المهنية.
"لم أضحي بهوايتي في الصحافة الرياضية، الظروف فرضت نفسها، لكني لم أتخلَّ عن حلمي ومسؤوليتي تجاه الرياضة، أحيانًا كنت أكتب على الهاتف المحمول وأضطر لأخذ استراحة قصيرة إذا بلغت الحالة النفسية أقصاها، لكن لم يمنعني شيء عن مواصلة التوثيق".
اليوم، تستمر نيللي في الكتابة، تجمع بين القصص المجتمعية والتوثيق الرياضي، في محاولة لربط الحاضر بالماضي الذي سُرق منها، ترى في كل طفل نازح لاعبًا مؤجلاً، وفي كل ملعب مدمر وعدًا بالعودة، ورغم ما فقدته من أدوات وصور وذكريات، لم تفقد يقينها بأن "الصحافة والرياضة" تملكان القوة نفسها: أن ترويا الحكاية حتى النهاية.