كيف ومتى تعرف أن عليك الذهاب إلى طبيب نفسي؟

ما يجب أن تعرفه

نمرّ جميعنا نحن البشر بأوقات نشعر فيها بضغوطات نفسية مختلفة الأشكال والشدّة، ويحدث أن نمرّ كذلك بمراحل تجعلنا نفقد السيطرة على إدارة حياتنا اليومية والسعي نحو أهدافنا الشخصية والاجتماعية.

وربّما نحسّ أحيانا بأنّنا لا نستطيع الانخراط مع الآخرين، ولا بناء علاقات إنسانية عميقة وذات معنى على المدى الطويل.

لكن السؤال هنا هو: هل يجب على الإنسان الذهاب إلى الطبيب أو المعالج النفسي كلّما شعر بمثل هذه الضغوط والمشكلات؟

لكي يكون الأمر واضحا منذ البداية، ليس هناك تعريف محدّد ونهائي لما يُعتبر سلوكا أو حالة "غير طبيعية"، وهذا يرجع إلى طبيعة الاضطرابات النفسية، وتعقيدها، وقصور قدرتنا على فهمها وتوقّعها وعلاجها.

رغم ذلك، حقّق البشرُ قفزات هائلة في فهمهم للنفس البشرية وأمراضها على جميع المستويات (بحثا وتصنيفا وفهما وتشخيصا وعلاجا)، وأصبح المتخصصون أكثرَ قدرة على الاتّفاق على مؤشرات عامة يمكن استخدامها لنُصح الناس بمراجعة المتخصصين في حال وجودها.

إنّ الحالات النفسية والسلوكات البشرية مركّبة، وتختلف في حدّتها وأثرها من شخص لآخر.

فعلى سبيل المثال، تُعدّ الوساوس (Obsessions) (وهي أفكار متطفّلةٌ تأتي لذهن الإنسان رغما عنه) ظاهرة إنسانية تحدث مع جميع الناس تقريبا، لكنها لا تأتي بنفس الطريقة والشدّة، ومن ثم فهي لا تستدعي التدخل الطبي دائما بالضرورة.

ويمكن سحب هذا المنطق على جميع الأفكار والسلوكات والانفعالات البشرية (وكذلك الحالات التي تشكّل مزيجا من الأفكار والسلوكات والانفعالات)، فهي طيفٌ واسع وممتدّ، من "غير المَرَضيّ" إلى "المَرَضيّ".

ولذلك، فهناك ما يستطيع الإنسان أن يتعامل معه بنفسه، وهناك ما لا يمكن التعامل معه إلّا بوجود معالج أو طبيب نفسي. فكيف نميّز بين هذا وذاك؟

على المستوى الإجرائي والعملي في الطبّ النفسي، هناك العديد من المعايير التي تُوضع لتشخيص الاضطرابات النفسية التي تحتاج إلى علاج، ولكل اضطرابٍ أعراضٌ يجب قياسها والتأكد من وجودها من قبل الطبيب المتخصص، فبحسب الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية الخامس "DSM-V" (وهو أهم الكتب الإرشادية لمعايير التشخيص وفهم الأمراض) يُعدّ وجود أحد المؤشرات الأربعة التالية -على الأقل- شرطا أساسيّا في تشخيص أيّ اضطراب نفسي:

  1. تعطّل عامّ أو تدهور في حياة الشخص وأدواره ووظائفه الاعتيادية عمليا أو اجتماعيا (Dysfunction).
  2. شعور ذاتي بضيق أو معاناة نفسية لا يستطيع التعامل أو التأقلم معها داخليا (Distress).
  3. خطر على نفسه أو على الآخرين (Danger)
  4.  مشكلة في علاقة الشخص مع الآخرين، أو "انحراف" شديد عن عُرف المجتمع المحيط، بما فيه المدى الواسع للسلوكات المقبولة فيه من فئات المجتمع المختلفة (Deviance) .

تُعيننا المُؤشّرات السابقة على تحديد ما هو طبيعي وما هو مَرَضي، إذ من غير الممكن تشخيص أي اضطراب نفسي دون وجود خلل في أحد هذه المؤشرات على الأقل .

ويظهر الخلل عادة في إحدى المساحات التالية:

علاقتنا مع أنفسنا، وعلاقاتنا مع الآخرين (سواء كانت الحميمية منها أو العائلية أو الصداقة أو الزمالة)، وعلاقتنا مع المجتمع بشكل عام (بما يتضمنه ذلك من الشعور بالانتماء والاندماج والقدرة على الإنتاج والعمل).

لماذا من المهم مراجعة الطبيب النفسي؟ ولماذا من المهم أن يكون ذلك مبكرا؟

من المهم زيارة المتخصص النفسي لأنّ الاطمئنان على النفس لا يضرّ عند الشكّ بالحاجة لذلك، ولأنّ المرض النفسي -حالَ وجوده- لن يُعالَجَ كما يجب إلّا في حال وجود تدخل علاجي متخصص.

وهو بذلك يشبه الأمراض في جميع فروع الطب، له أساس عضوي وجسدي واضح ولا يمكن إنكاره، رغم اختلافه في خصوصية امتداده لما بعد البيولوجيا (في التفاعل مع النفس والمجتمع وليس الجسد فقط).

قد يشعر البعض أن هذه المؤشرات يمكن أن تحوّل كل سلوكٍ إلى حالةٍ مَرَضيّة، ما يتسبب في الإفراط غير الضروري في التشخيص (Over-Diagnosis and Medicalization)، وهذا أمرٌ يحمل بعض أوجه الصحّة في الممارسة العملية ، إلّا أنّ ذلك لا ينفي بأي شكل أن الاعتناء بالصحة النفسية يبدأ عبر إدراك هذه الأسس والتغيرات في هذه المؤشرات، وافتراض حدوث التشخيص (غير الصحيح) لا يجب أن يمنع مراجعة الطبيب النفسي عند الضرورة، لأن في ذلك دائما لزوم ما لا يلزم في التعامل مع الصحة النفسية.

بالإضافة إلى ذلك، تقوم فلسفة الطب الحديث على الوقاية من المرض قبل حدوثه أصلا، أي مبدأ الطب الوقائي (Preventive Medicine)، والذي يسعى إلى تنمية الصحة بوصفها اكتمالَ السلامة الجسدية والعقلية والاجتماعية (كما تعرّفها منظمة الصحة العالمية) ، وليس مجرد انعدام المرض أو العجز.

وهذا ليس مجرد تطوّرٍ في نظرتنا للصحة، بل هو نتيجة أبحاث على مدى سنوات طويلة أظهرت اختلاف مآلات الأمراض ومؤشرات الصحة الاجتماعية جميعها بشكل إيجابي جدّا في حالِ السعي للوقاية منها والتدخّل الطبي المبكّر فيها، حتى إنّ "الطب الوقائي" أصبح فرعا أساسيّا من الطبّ بشكل عام، وأصبحت ممارساته تمتدّ للتخصصات الأخرى .

ماذا تفعل حين تمرّ بوقت صعب وتشكّ بحاجتك لمراجعة طبيب نفسي؟

 

أولا: حاول أن تقيّم درجة مرضك ومدى سوئه

ربّما تساعدك الأسئلة المفتاحية التالية في تقييم ما تمرّ به بدقّة، وتفريق السلوك الطبيعي عن غير الطبيعي في تقييمك:

  • إلى أي مدى يعطّل ما أنت فيه حياتك اليومية؟ وإلى أي مدى يأخذ من وقتك وطاقتك؟
  • هل غيّرت من نمط حياتك وعاداتك وشخصيتك بسبب هذه الحالة؟
  • هل يعتبر ما أنت فيه أمرا غريبا بالنسبة إلى من حولك؟ هل أبدَوا استياءهم أو قلقهم مما أنت فيه؟
  • هل يشكّل ما أنت فيه خطرا على نفسك وعلى الآخرين من حولك على المديين قصير الأمد وطويله؟

إنّ من أهمّ المشكلات التي تجعل التعامل مع الحالات النفسية المختلفة أمرا صعبا هي عدمُ معرفتها أصلا، وعدم المعرفة المقصود هنا هو عدم تسمية الانفعالات والسلوكات بمسمّياتها وعدم الوعي بأسبابها. التأمّل الذاتي والوقوف مع النفس كأنّك تراقبها ككيانٍ منفصل عنك ودون حكمٍ عليها، هي خطوة أولى ممتازة نحو الحلّ، فالحكم على الشيء فرع عن تصوّره، والمشاعر والانفعالات هي بمثابة البيانات التي تنتظر تحليلا عقلانيّا وموضوعيّا لتتحول إلى معلومات يمكن توظيفها والتعامل معها.

 

ثانيا: يمكنك دائما الذهاب للاستشارة حتى دون أسبابٍ مُلحّة وواضحة

مراجعة الطبيب لا تعني تشخيص مرضٍ بالضرورة. هذه حقيقة علمية وعملية يجب إدراكها. وكما أنّ الإنسان قد يذهب إلى طبيب قلب حين يشعر بأعراض تتعلق بالقلب (مثل تسارع النبضات أو ألم الصدر) ليتأكد من وجود مرض أو لا، فإنّ الطبيب النفسي لا يجب أن يشخّص مرضا في جميع من يزوره، بل هو يركّز على أخذ سيرة مرضية كاملة، والاطّلاع على الحالة بشكل متكامل قبل أن يقرر وجود مرض من عدمه، ثمّ يقرر كذلك فيما إذا كانت الحالة تستدعي وصف علاج دوائي أو غير دوائي أو كليهما معا.

 

الذهاب إلى الطبيب النفسي للتأكد من أيّ خللٍ نفسي أو شعور ضاغطٍ أو تغيّرٍ ملحوظ، هو فعلُ عنايةٍ بالنفس وحفظٌ لها، كما أنّ من حفظ الجسد والعناية به أن نقوم بفحوصات دورية للتأكد من خلوّه من الأمراض

 

ثالثا: جرّب إجراء بعض التغييرات على نمط حياتك 

يكمن سبب ازدياد شدّة الحالة النفسية السلبية أحيانا فيما تولّده من اختلال في عادات الحياة اليومية (كاضطراب النّوم، وعدم ضبط عادات الأكل، والتوقف عن ممارسة الرياضة). تشكّل هذه الجوانب الثلاثة أحجار أساسٍ لصحّتنا العامة، ويمكن لضبطها أن يُسهم في تحسين قدرتنا على تحمّل الضغط، وتقليل شدّة المعاناة النفسية (من اكتئاب أو قلق أو غيرها)، وهذا مُثبتٌ في العديد من الدراسات عبر التاريخ.

 

لا يكفي ضبط العادات اليومية (من تناول غذاء صحي، وممارسة الرياضة، وضبط النوم) في علاج المرض، لكنه قد يساعد في مساعدتنا على أن نُفرِّق بين الحالة النفسية التي تستلزم علاجا متخصصا من جهة، وحالات الضغط النفسي اليومية التي يمكن التعامل والتأقلم معها عبر الحفاظ على نمط حياة صحي.

 

رابعا: استشر صديقا أو شخصا تثق به، وحاول ألّا تبقى وحيدا

للدعم الاجتماعي ارتباط كبير ودور مهم في تحسين مآلات الاضطرابات النفسية (7)، وتحسين الصحة النفسية والجسدية بشكل عام كذلك ، وللوحدة آثار سيئةٌ على النفس البشرية خصوصا على المدى الطويل (8). لذلك، يبدو أن عدم البقاء وحيدا خلال معاناتك النفسية هو إستراتيجية جيدة، ولا تقلّ أهمية عن تغيير نمط حياتك نحو الأفضل. هذا لا يعني طبعا أن تتحدث عن معاناتك مع جميع من تعرف، لأن ذلك قد يؤدي إلى آثار عكسية، لكنه يعني أن تُبقي دوائرك الاجتماعية فعّالة، وأن تستشيرَ شخصا تثق به عند الحاجة، وتثق بحكمته وقدرته على مساعدتك في اتخاذ القرار الصحيح.

 

خامسا: لا تكن قاسيا على نفسك

إنّ من السهولة بمكان أن ينزلق المرء نحو جلد الذات حين يمرّ بوقتٍ سيئ وقاسٍ، فقسوة الحياة تستدعي قسوتَنا على أنفسنا أحيانا بوصفها وسيلة دفاع سريعة تخفّف من قلق مواجهة الحقيقة بعض الشيء. لكن الحقيقة هي أنّنا جميعا معرّضون للإصابة بالمرض النفسي، بلا استثناء

 

المصدر:الجزيرة