عام الصمود والتحدي
هناك من المؤشرات والتطورات ما يشير إلى أنّ العام 2018 سيكون عامًا من عدم اليقين، ويمكن أن يشهد تطورات عاصفة في بلدان عدة في المنطقة، في الخليج والعراق وسوريا واليمن والأردن وليبيا، وليس في فلسطين فقط، وربما يكون منعطفًا تاريخيًا في فلسطين. ولا أبالغ في القول إنه يمكن أن يكون عام الصمود والتحدي، وبداية النهوض الفلسطيني، أو حلقة جديدة على طريق تصفية القضية.
فليس من المصادفة أن اليوم الأخير في العام الماضي شهد إقرار حزب الليكود، وبالإجماع، ضم الضفة الغربية لإسرائيل، ما يعني أن وقت حصاد الثمار المرة الخبيثة قد أزف، وأن ضم الكتل الاستيطانية لإسرائيل يقترب، وأن ضم مناطق (ج) ليس بعيدًا، بل جاري ضمها بالتدريج.
ولعلّ الإعلان عن مخططات استعمارية استيطانية تضم إقامة مئات آلاف الوحدات الاستيطانية مجرد مقدمات لما يمكن أن يحدث، وهذا كله من تداعيات وارتدادات قرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، لأنه يشجع غلاة المتطرفين الإسرائيليين على المضي قدمًا، ما يستدعي مواصلة المعركة لكسره والاستعداد لما بعده.
إنّ هذا القرار بمنزلة تغيير قواعد اللعبة التي حكمت ما سمي "عملية السلام" منذ توقيع اتفاق أوسلو، التي قامت في جوهرها على محاولة التوصل إلى تسوية غير متوازنة، وعلى أن الأراضي المحتلة العام 1967 أراضٍ متنازعٌ عليها. في حين إن قرار ترامب بخصوص القدس يعني أن الإدارة الأميركية انتقلت من الانحياز لإسرائيل إلى الشراكة الكاملة معها، من خلال اعتبار أن هذه الأراضي - التي ضمت إسرائيل الكثير منها فعليًا - لم يعد متنازعًا عليها من وجهة نظر أميركا، بل أصبحت إسرائيلية، وأن الصراع سيدور فيما بعد على ما تبقى منها، أي على المناطق الآهلة بالسكان والمصنفة (أ) و(ب)، وما يفتحه ذلك من مجال للتهجير وحل المسألة الفلسطينية على حساب الأردن ومصر.
ومن التوقعات لما يمكن أن يشهده هذا العام عدوانٌ جديدٌ على قطاع غزة، فمع أنّ إسرائيل وحركة حماس ومعها بقية الفصائل الفلسطينية لا تريد مواجهة عسكرية الآن على الأقل، لدرجة أن إسرائيل أعلنت إقرار خطة لتخفيف الحصار عن القطاع؛ حتى لا يؤدي تفاقم الحصار والأوضاع الاقتصادية إلى انهياره وانفجاره، ما سيقود إلى المواجهة، أو الفوضى، أو كلتيهما، ورغم حرص الجانبين الآن على عدم الإنجرار إلى الحرب، إلا أن التوتر والعوامل المؤثرة وصاروخًا أو صواريخ تسبب قتلى إسرائيليين قد تدفع الأمور نحو المواجهه العسكرية.
ولن يفتح انفجار القطاع أو انهياره طريق عودة السلطة المقيدة بأوسلو إليه، وإنما ستبرز قوى "جهادية متطرفة" لن يكون لها مصلحة في ضبط القطاع، وهذا من العوامل التي تجعل إسرائيل لا تريد شن عدوان الآن، عدا عن الخسائر الإسرائيلية المترتبة عليه، وحرصها على إدامة الانقسام، وفتح طريق "حل "القضية الفلسطينية عن طريق إقامة كيان فلسطيني في غزة يمكن أن يسمى "دولة"، ترتبط به أو لا ترتبط المعازل الآهلة بالسكان المقطعة الأوصال في الضفة.
القضية ليست كما تطرحها بعض القيادات أن المقاومة ستدافع ولن تهاجم في القطاع، لأنها حررته، وأن المطلوب من الضفة أن تحرر نفسها وكأن الشعب الفلسطيني شعوبًا وكأن معاركه منفصلة عن بعضها، وأنّ إسرائيل ستسمح بمقاومة مستعرة في الضفة وتُبقي القطاع هادئًا!
إن هذه الأقوال تقفز عن أن القطاع ليس محررًا رغم انسحاب القوات المحتلة من داخله، بدليل أنها لا تزال تحاصره وتشن العدوان متى تشاء وتحتل حوالي 20% من مساحته، عدا عن سيطرتها على الأجواء والحدود البرية والمائية.
فالحرب لا يريدها الفلسطينيون لتفوق إسرائيل عسكريًا - فما متوفر ينفع للدفاع وليس الهجوم - ولحجم الدمار والموت الذي يمكن أن تحدثه، ولعدم وجود عمق عربي وإقليمي ودولي داعم، بما فيه الكفاية، ولأن الحرب العسكرية تحرف الأنظار عن معركة القدس وعما يجري في الضفة من ضم وتهجير زاحف.
سيكون العام 2018 مليء بالتحديات والمخاطر، ولكنه يمكن أن يوفر فرصًا كذلك، فهناك حوالي 7 مليون فلسطيني ما زالوا يقيمون على أرض فلسطين، منهم 1.8 مليون في أراضي 48، و2 مليون داخل القطاع، والباقي في الضفة، بما فيها القدس، وهم مصممون على البقاء والصمود والتحدي.
كما تشهد المنطقة والإقليم والعالم تغيرات متسارعة، فلم تعد أميركا القطب المهيمن الأحادي المسيطر على العالم والمنطقة، بل تتراجع باستمرار، ولم تعد إسرائيل اللاعب الوحيد أو الرئيسي في المنطقة، فهناك اللاعبون: الإيراني، والتركي، والروسي، والصيني، والأوروبي. وهذا يضع حدودًا لنفوذ وتدخل وقوة الردع الإسرائيلية.
صحيح أن هناك غيابًا لمشروع عربي ولقوة عربية قائدة وجامعة، وهذا حجر سنمار. ولكن هذا لا يمنع كليًا الفلسطينيين والعرب من الاستفادة من تنافس المحاور الإقليمية والدولية، ومن أن إسرائيل باتت تخشى إيران أكثر من السابق بعد انتشار مقاتلي حزب الله والجيش الشعبي الإيراني في سوريا وعلى حدود سوريا مع فلسطين، ما يطرح احتمال الحرب، غير أن إسرائيل ستفكر أكثر من مرة قبل المبادرة إليها كونها ليست مضمونة النتائج، ولأنها لن تكون سريعة وخاطفة وبعيدة عن الجبهة الداخلية الإسرائيلية.
أحذر مرة أخرى من الانضمام لأي محور كون القضية الفلسطينية جامعة، وتحظى بتأييد مختلف المحاور، التي يسعى كل منها لتحقيق مصالحه وأهدافه التي تتقاطع أو لا تتقاطع أو تتقاطع أحيانًا مع المصالح والأهداف الفلسطينية.
ما سبق يدل أن ما تريده واشنطن وتل أبيب ليس قدرًا لا فكاك منه، بل عدوانًا يمكن الاستعداد لدحره وإحباطه ومنع حدوثه أو هزيمته. وهذا ممكن جدًا إذا توفرت الرؤية الشاملة والإرادة المستعدة للتحدي ودفع الثمن وخطة العمل المناسبة.
سيشهد العام 2018 سباقًا محمومًا بين الاحتلال والفلسطينيين، إذ سيحاول الاحتلال مدعومًا بإدارة ترامب قطف ثمار سياسة خلق الحقائق على الأرض المتواصلة منذ عشرات السنين، من خلال السعي لتطويع القيادة، أو العمل على استبدالها بقيادة جديدة إذا لم تتجاوب مع المطلوب منها، أو تقبل التعايش على الأقل مع الأمر الواقع الذي يفرضه الاحتلال. وسيحاول الفلسطينيون مجددًا النهوض من وسط الرماد مدعومين بعدالة قضيتهم وتفوقها الأخلاقي، وتصميمهم على الصمود والتحدي مسلحين بالعمق العربي والإسلامي والدولي والإنساني التحرري الذي عبر عن نفسه بقوة برفض قرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
الخطأ القاتل الذي يمكن أن ترتكبه القيادة الفلسطينية اعتبار ردة الفعل على هذا القرار كافية، أو أنها يجب أن تبقى ضمن هذه الحدود، والآن وقت الحصاد. وتكرر بذلك الأخطاء التي ارتكبتها تاريخيًا عندما استعجلت باستثمار الثورات والانتفاضات والمتغيرات والتطورات الدولية حين تصورت أن قطار التسوية جارف بعد حرب تشرين 1973، وإذا غادر المحطة من دون الالتحاق به راحت عليها.
وكررت الخطأ نفسه حين تصورت بعد الانتفاضة المجيدة في 1987 وبداية التسعينيات من القرن الماضي أن الدولة على مرمى حجر، خصوصًا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والتضامن العربي، بزعم أن الدور الإسرائيلي في الإستراتيجية الأميركية تراجع كثيرًا، وأنّ الدولة الفلسطينية باتت مصلحة أميركية، فقفزت إلى المجهول، ووقعت اتفاق أوسلو سيئ الصيت والسمعة، مراهنة على المفاوضات، وعلى أميركا، وعلى إثبات الجدارة وإظهار حسن النية، ومتوهمة إمكانية تحوّل الحكم الذاتي المحدود المنصوص عليه في أوسلو إلى دولة فلسطينية.
والجدير ذكره أن الأخطاء لم تقتصر على القيادة، بل إن قوى رفض التسوية وقعت في نفس الأخطاء، ولكن بصورة معاكسة، حين انطلقت أيضًا بأن قطار التسوية جارف والدولة على مرمى حجر، والمطلوب رفضها لأنها ستقوم على جزء من فلسطين في الضفة والقطاع فقط، ولأنها لا تملك المقومات، فردّ عليهم أنصار الدولة بأننا لا نختار وطنًا، بل نسترجع وطننا، وأن الحصول على شيء أفضل من لا شيء إلى أن وصلنا إلى الفخ الذي نعيش جميعا فيه. ونحن بحاجة إلى كفاح عنيد وإبداع لنخرج منه.
من الخطأ اعتماد معادلة "إما الكل أو لا شيء"، أو قبول "أي شيء" على أساس "إنقاذ ما يمكن إنقاذه"، ولو بثمن التخلي عن كل شيء فالمعادلة الصحيحة "تحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه في كل مرحلة من دون التخلي عن بقية الأهداف والحقوق". مع أهمية الإشارة إلى أن قطار التسوية لم يكن جارفًا ولا يحمل تسوية وإنما تصفية، ما يتطلب من الفصائل الفلسطينية الكف عن الصراع على جلد الدب قبل صيده، وعلى سلطة الحكم الذاتي تحت الاحتلال التي ثبت بالملموس بأنها لا تحمل أفق التحول إلى دولة إذا استمر الفلسطينيون في اعتماد الإستراتيجيات المعتمدة التي أوصلتهم إلى طريق مسدود.
كلمة السر تغيير المسار جذريًا على أساس رؤية شاملة وإرادة لا تلين وخطة عمل تحقق أقصى ما يمكن، وتفتح الطريق لتحقيق أهداف أخرى.